عطر الياسمين
.
.
في حيّ ضيّق تتشابك فيه نوافذ البيوت القديمة كأصابع العشاق، عاش "أمير" الفتى العشريني الذي أُغلق قلبه على اسم "لينا" منذ أن رآها تزرع الياسمين في شرفة منزلها المُطلّة على غرفته. كانت تكبره بأربع سنوات، لكن سنوات عمرها السبعة والعشرين لم تُضِف إلى جمالها سوى نضجاً جعل نظراتها تلمع كالنجوم في ليالي الشتاء الصافية.
كان أمير يعمل في متجر صغير لبيع الكتب المُستعملة، يتسلل بين رفوفها كل صباح كي يختلس النظر من النافذة الخلفية نحو شرفة لينا. يراها تُمسك بفنجان القهوة وتقرأ كتاباً، شعرها الأسود يتدلى كستائر من الحرير حين تميل برأسها ضاحكةً لرسالة على هاتفها. كان يعرف أنها تضحك لـ"كريم"، الجار الثلاثيني الذي يزورها كل مساء بدراجته النارية، حاملاً باقات زهور برية يجمعها من أطراف المدينة.
ذات ظهيرة، بينما كان أمير يُرتب رواية "الأجنحة المتكسرة" لجبران، سمع صوت إنذار حريق ينهال من منزل لينا. اندفع كالريح عبر الأزقة، ليجدها واقفة على الرصيف مرتعشةً والدخان يتصاعد من مطبخها. قبل أن يصل كريم، كان أمير قد اقتحم المنزل المُحتجب بقطعة قماش مبللة، وأطفا اللهب الناتج عن زيتٍ اشتعل في المقلاة. حين عادت لينا لشكرِه، وجدته يغادر مُسرعاً كشبحٍ خجول، تاركاً وراءه سُتْرَةً زرقاء ملوثة بالرماد.
منذ ذلك اليوم، بدأت التفاصيل الصغيرة تتغير. صارت لينا تلوح له بيدها حين تراه يغلق متجره مساءً، وترك له ذات مرة كتاب "رسائل إلى ميلينا" لكافكا على عتبة الباب مع ورقة كُتِب عليها: "للقارئ الوحيد الذي يعرف سرّ الروايات المنسية". أما كريم، فاستمر في زياراته اليومية، لكن عينيه صارتا تلتقيان بأمير أحياناً في مباراة صامتة، كأنهما يتبارزان بسُيوفٍ من نظرات.
في ليلة اكتمال القمر، بينما كان أمير يُراقب من نافذته احتفالاً عائلياً في منزل لينا، رأى كريم يُقدم على ركبة واحدة ممسكاً بخاتمٍ ذهبي. سقط الكتاب من يد الفتى كطائر جريح، لكن قبل أن يذوب قلبه تماماً، سمع دقاً خفيفاً على الباب. كانت لينا واقفة في الظلام، عيناها تلمعان كالندم: "هل يمكنني الجلوس هنا قليلاً؟ أخبرتهم أنني سأشتري سجائر...". جلسا على أرضية المتجر يتناقلان فنجان شاي بنعناع، تتخلل صمتهما أصوات السيارات البعيدة. لم يسألها عن الخاتم، ولم تُخبره لماذا هربت من الضوء والفرح، لكن حين غادرت، تركَت زهرة ياسمين بين صفحات الكتاب الذي подаَفته له.
مع أولى خيوط الفجر، وجد أمير الورقة التي سقطت من بين طيات "رسائل إلى ميلينا": *"أحياناً نزرع الياسمين في الأواني لا لأننا نجهل أنه يحتاج إلى أرضٍ واسعة، بل لأننا نريد أن نحتفظ بعطره قريباً حتى لو كان مصيره الذبول"*.
ومنذ ذلك اليوم، صار المتجر الصغير يعبق بروائح الكتب القديمة... وعطر الياسمين.
.
.