‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة قصيرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة قصيرة. إظهار كافة الرسائل

🟡 عطر الياسمين (قصة قصيرة)

عطر الياسمين

.


.

في حيّ ضيّق تتشابك فيه نوافذ البيوت القديمة كأصابع العشاق، عاش "أمير" الفتى العشريني الذي أُغلق قلبه على اسم "لينا" منذ أن رآها تزرع الياسمين في شرفة منزلها المُطلّة على غرفته. كانت تكبره بأربع سنوات، لكن سنوات عمرها السبعة والعشرين لم تُضِف إلى جمالها سوى نضجاً جعل نظراتها تلمع كالنجوم في ليالي الشتاء الصافية.


كان أمير يعمل في متجر صغير لبيع الكتب المُستعملة، يتسلل بين رفوفها كل صباح كي يختلس النظر من النافذة الخلفية نحو شرفة لينا. يراها تُمسك بفنجان القهوة وتقرأ كتاباً، شعرها الأسود يتدلى كستائر من الحرير حين تميل برأسها ضاحكةً لرسالة على هاتفها. كان يعرف أنها تضحك لـ"كريم"، الجار الثلاثيني الذي يزورها كل مساء بدراجته النارية، حاملاً باقات زهور برية يجمعها من أطراف المدينة.


ذات ظهيرة، بينما كان أمير يُرتب رواية "الأجنحة المتكسرة" لجبران، سمع صوت إنذار حريق ينهال من منزل لينا. اندفع كالريح عبر الأزقة، ليجدها واقفة على الرصيف مرتعشةً والدخان يتصاعد من مطبخها. قبل أن يصل كريم، كان أمير قد اقتحم المنزل المُحتجب بقطعة قماش مبللة، وأطفا اللهب الناتج عن زيتٍ اشتعل في المقلاة. حين عادت لينا لشكرِه، وجدته يغادر مُسرعاً كشبحٍ خجول، تاركاً وراءه سُتْرَةً زرقاء ملوثة بالرماد.


منذ ذلك اليوم، بدأت التفاصيل الصغيرة تتغير. صارت لينا تلوح له بيدها حين تراه يغلق متجره مساءً، وترك له ذات مرة كتاب "رسائل إلى ميلينا" لكافكا على عتبة الباب مع ورقة كُتِب عليها: "للقارئ الوحيد الذي يعرف سرّ الروايات المنسية". أما كريم، فاستمر في زياراته اليومية، لكن عينيه صارتا تلتقيان بأمير أحياناً في مباراة صامتة، كأنهما يتبارزان بسُيوفٍ من نظرات.


في ليلة اكتمال القمر، بينما كان أمير يُراقب من نافذته احتفالاً عائلياً في منزل لينا، رأى كريم يُقدم على ركبة واحدة ممسكاً بخاتمٍ ذهبي. سقط الكتاب من يد الفتى كطائر جريح، لكن قبل أن يذوب قلبه تماماً، سمع دقاً خفيفاً على الباب. كانت لينا واقفة في الظلام، عيناها تلمعان كالندم: "هل يمكنني الجلوس هنا قليلاً؟ أخبرتهم أنني سأشتري سجائر...". جلسا على أرضية المتجر يتناقلان فنجان شاي بنعناع، تتخلل صمتهما أصوات السيارات البعيدة. لم يسألها عن الخاتم، ولم تُخبره لماذا هربت من الضوء والفرح، لكن حين غادرت، تركَت زهرة ياسمين بين صفحات الكتاب الذي подаَفته له.


مع أولى خيوط الفجر، وجد أمير الورقة التي سقطت من بين طيات "رسائل إلى ميلينا": *"أحياناً نزرع الياسمين في الأواني لا لأننا نجهل أنه يحتاج إلى أرضٍ واسعة، بل لأننا نريد أن نحتفظ بعطره قريباً حتى لو كان مصيره الذبول"*.


ومنذ ذلك اليوم، صار المتجر الصغير يعبق بروائح الكتب القديمة... وعطر الياسمين.

.

.

🟡 دوّامة الرّهان (قصة قصيرة)

دوّامة الرّهان


كان صالح رجلاً بسيطًا يعمل في متجر صغير لبيع الأدوات الكهربائية في أحد الأحياء الشعبية. كان معروفًا بين أصدقائه بحبه الشديد لكرة القدم، لكنه لم يكن مجرد مشجع عادي، بل كان مهووسًا بمتابعة المباريات وتحليل الفرق، حتى بات يتفاخر بقدرته على توقع النتائج بدقة.


في البداية، كانت رهاناته صغيرة، مجرد مزاح بين الأصدقاء أثناء المباريات، لكنه سرعان ما تعرف على مواقع الرهان الرياضي عبر الإنترنت، حيث أُغري بالأرباح السريعة. في إحدى المرات، راهن بمبلغ بسيط وفاز، فبدأت فكرة الربح السريع تسيطر على عقله. شيئًا فشيئًا، بدأ يزيد من رهاناته، مدفوعًا بوهم أنه يستطيع تحويل شغفه بكرة القدم إلى مصدر دخل ثابت.


كانت زوجته مريم امرأة صبورة، تراقب تغيراته بصمت، لكنه لم يكن يهتم لتحذيراتها. مع مرور الأيام، بدأ يغيب عن عمله بحجة متابعة المباريات، حتى طرده صاحب المتجر بعد أن تكرر غيابه. بدلًا من أن يشعر بالندم، وجد في البطالة فرصة للتركيز أكثر على رهاناته، مقتنعًا بأنها ستكون وسيلته للخروج من الفقر.


لكن الحظ لم يكن دائمًا في صفه. بعد سلسلة من الخسائر المتتالية، بدأ يستدين من أصدقائه، ثم من المعارف، حتى لجأ إلى المرابين، الذين لم يترددوا في منحه المال بفوائد فاحشة. أصبح المنزل مكانًا للجدال والصراخ، وبدأت مريم تفقد صبرها.


ذات مساء، بعدما خسر مبلغًا كبيرًا كان قد اقترضه من أحد المرابين، عاد إلى المنزل متوترًا، ليجد زوجته تنتظره بوجه شاحب. قالت بحزم:

— "هذه ليست حياة، صالح! أنت تضيّعنا جميعًا بسبب أوهامك!"


حاول تبرير أفعاله، متوسلًا إليها أن تمنحه فرصة أخيرة، لكنه لم يعد يملك شيئًا ليقدمه. كان قد باع أثاث المنزل وساعته وهاتفه، وحتى ذهب زوجته دون علمها. حين اكتشفت ذلك، لم تقل شيئًا، فقط دخلت الغرفة، جمعت ملابسها وملابس أطفالهما، وخرجت دون أن تنظر خلفها.


في اليوم التالي، تلقى صالح رسالة قصيرة: "قدمت طلب الطلاق."


شعر وكأن الدنيا تدور به. كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ لكنه لم يكن يملك وقتًا للتفكير. كان الدائنون يطرقون بابه بعنف، يطالبونه بالسداد، وحين لم يجدوا ما يأخذونه، اعتدوا عليه بالضرب، وتركوه مرميًا في زاوية الحي.


مع مرور الأيام، بدأ صالح يفقد عقله. أصبح يهيم في الشوارع بملابس رثة، يتحدث مع نفسه عن المباريات والرهانات وكأنها لا تزال تجري في رأسه. كان يصرخ بأسماء اللاعبين، يحلل الخطط الوهمية، ويجادل المارة كما لو أنهم محللون رياضيون.


صار مشهدًا مألوفًا في الحي، الرجل الذي فقد كل شيء بسبب الرهان، يمشي بلا هدف، ينظر إلى السماء كأنه يرى شاشة عملاقة تعرض مباراة لم تنتهِ بعد.


وفي إحدى الليالي الباردة، عثر عليه بعض المارة جالسًا على الرصيف، يتمتم بصوت خافت:

— "لو أن المدرب لم يغير التشكيلة… لو أنني لم أراهن على تلك المباراة..."


كان وجهه شاحبًا وعيناه زائغتين، وكأن عقله ظل عالقًا في تلك اللحظة التي خسر فيها كل شيء.


🟡 أمواج الوداع (قصة قصيرة)

 أمواج الوداع

.



.

جلس "سامر" على الشاطئ، يُحدّق في الأفق حيث تلتقي السماء بالبحر في امتداد لا نهائي. كانت الشمس تميل إلى الغروب، تصبغ المياه بدرجات من البرتقالي والأحمر، وكأنها تشارك في وداعه الصامت. تنفّس بعمق، فامتلأت رئتاه بهواء البحر المشبع برائحة الملح والرطوبة.


كان الشاطئ شبه خالٍ، باستثناء بضعة عائلات بعيدة وأصوات الأطفال التي تصل إليه خافتة، كأنها تأتي من عالم آخر لا ينتمي إليه. جلب معه كيسًا ورقيًا بداخله كتاب قديم، زجاجة ماء، وحفنة من الحصى الصغيرة التي كان يقلبها في يده بلا وعي. جلس على صخرة قريبة من الماء، حيث تتسلل الأمواج بين أصابعه العارية، تبلّلها برفق ثم تنحسر كما لو كانت تتردد بين الأخذ والعطاء.


أخرج من جيبه ورقة مطوية بعناية، كانت رسالة كتبها قبل يومين. قرأها بصوت خافت، يتحسس حروفها بأصابعه المرتعشة:


"إلى من يهمه أمري...

لا أدري متى بدأت هذه الفجوة تكبر في داخلي، لكنني اليوم أشعر بأنها قد ابتلعتني بالكامل. لم أعد أرى سببًا للبقاء، ولم أعد أشعر أن لي مكانًا في هذا العالم. أعتذر لكل من حاول، ولكل من أحبني... لكنني تعبت."


أغلق عينيه للحظة، ثم طوى الورقة وأعادها إلى جيبه. كان قرار إنهاء حياته يبدو واضحًا عندما غادر منزله ذلك الصباح، لكن الآن، وهو جالس هنا وسط صوت الموج وملمس الرمال الباردة، بدأ الشك يتسلل إليه.


كانت هناك طيور نورس تحلق فوقه، تصرخ بنداءاتها الخشنة، كأنها تحذّره من شيء. راقبها وهي تغوص في المياه ثم تصعد من جديد، ترفرف بأجنحتها المبللة. تساءل كيف سيكون شعوره لو ألقى بنفسه بين تلك الأمواج، لو ترك المياه تبتلعه بهدوء... هل سيكون الأمر سريعًا أم مؤلمًا؟ هل سيشعر بالخفة أخيرًا؟


تأمل البحر بعينين مثقلتين، لاحظ كيف تتغير الأمواج باستمرار، لا تبقى على حالها أبدًا. ربما كان البحر يشبه الحياة أكثر مما يظن—متغيرًا، متقلبًا، لا يستقر أبدًا.


بينما كان غارقًا في أفكاره، اقترب منه رجل مسنّ، يمشي ببطء مستندًا إلى عصاه. وقف بجواره، ناظرًا إلى البحر بنفس العمق الذي كان يحدق به سامر. لم يقل شيئًا في البداية، ثم أطلق ضحكة هادئة وقال:


— "البحر عجيب، أليس كذلك؟ يأخذ منا لكنه يعيد إلينا أيضًا. ذات يوم، كنت أظن أنني فقدت كل شيء، وجئت إلى هنا مثلك تمامًا."


نظر سامر إلى الرجل بدهشة، كأنه سمع صدى أفكاره بصوت شخص آخر. تردد قبل أن يسأل بصوت خافت:


— "وماذا حدث بعد ذلك؟"


ابتسم الرجل، عاقدًا يديه خلف ظهره، وقال:


— "انتظرت. لم أفعل شيئًا سوى أنني انتظرت. كان البحر يهمس لي بأسراره، والموج يلامس قدمي، ومع كل موجة جديدة، شعرت أن الحياة ما زالت تمنحني فرصة أخرى."


توقف للحظة ثم تابع:


— "وفي يوم من الأيام، أدركت أنني لا أريد الرحيل بعد. وجدت أن هناك دائمًا سببًا للبقاء، حتى لو لم أره في البداية."


ساد صمت بينهما. كانت الأمواج مستمرة في مداعبة الرمال، والرياح تهبّ برفق، كأنها تحمل معه الكلمات الثقيلة التي ملأت قلب سامر.


أخذ نفسًا عميقًا، نظر إلى الأفق مرة أخرى، ثم أخرج الورقة من جيبه. نظر إليها لثوانٍ قبل أن يمزقها ببطء، فتطايرت قطعها الصغيرة مع الريح، تندمج مع رمال الشاطئ كأنها لم تكن.


للمرة الأولى منذ فترة طويلة، شعر أن صدره أصبح أخف.


🟡 أمواج الوداع (قصة قصيرة)

 أمواج الوداع

.



.

جلس "سامر" على الشاطئ، يُحدّق في الأفق حيث تلتقي السماء بالبحر في امتداد لا نهائي. كانت الشمس تميل إلى الغروب، تصبغ المياه بدرجات من البرتقالي والأحمر، وكأنها تشارك في وداعه الصامت. تنفّس بعمق، فامتلأت رئتاه بهواء البحر المشبع برائحة الملح والرطوبة.


كان الشاطئ شبه خالٍ، باستثناء بضعة عائلات بعيدة وأصوات الأطفال التي تصل إليه خافتة، كأنها تأتي من عالم آخر لا ينتمي إليه. جلب معه كيسًا ورقيًا بداخله كتاب قديم، زجاجة ماء، وحفنة من الحصى الصغيرة التي كان يقلبها في يده بلا وعي. جلس على صخرة قريبة من الماء، حيث تتسلل الأمواج بين أصابعه العارية، تبلّلها برفق ثم تنحسر كما لو كانت تتردد بين الأخذ والعطاء.


أخرج من جيبه ورقة مطوية بعناية، كانت رسالة كتبها قبل يومين. قرأها بصوت خافت، يتحسس حروفها بأصابعه المرتعشة:


"إلى من يهمه أمري...

لا أدري متى بدأت هذه الفجوة تكبر في داخلي، لكنني اليوم أشعر بأنها قد ابتلعتني بالكامل. لم أعد أرى سببًا للبقاء، ولم أعد أشعر أن لي مكانًا في هذا العالم. أعتذر لكل من حاول، ولكل من أحبني... لكنني تعبت."


أغلق عينيه للحظة، ثم طوى الورقة وأعادها إلى جيبه. كان قرار إنهاء حياته يبدو واضحًا عندما غادر منزله ذلك الصباح، لكن الآن، وهو جالس هنا وسط صوت الموج وملمس الرمال الباردة، بدأ الشك يتسلل إليه.


كانت هناك طيور نورس تحلق فوقه، تصرخ بنداءاتها الخشنة، كأنها تحذّره من شيء. راقبها وهي تغوص في المياه ثم تصعد من جديد، ترفرف بأجنحتها المبللة. تساءل كيف سيكون شعوره لو ألقى بنفسه بين تلك الأمواج، لو ترك المياه تبتلعه بهدوء... هل سيكون الأمر سريعًا أم مؤلمًا؟ هل سيشعر بالخفة أخيرًا؟


تأمل البحر بعينين مثقلتين، لاحظ كيف تتغير الأمواج باستمرار، لا تبقى على حالها أبدًا. ربما كان البحر يشبه الحياة أكثر مما يظن—متغيرًا، متقلبًا، لا يستقر أبدًا.


بينما كان غارقًا في أفكاره، اقترب منه رجل مسنّ، يمشي ببطء مستندًا إلى عصاه. وقف بجواره، ناظرًا إلى البحر بنفس العمق الذي كان يحدق به سامر. لم يقل شيئًا في البداية، ثم أطلق ضحكة هادئة وقال:


— "البحر عجيب، أليس كذلك؟ يأخذ منا لكنه يعيد إلينا أيضًا. ذات يوم، كنت أظن أنني فقدت كل شيء، وجئت إلى هنا مثلك تمامًا."


نظر سامر إلى الرجل بدهشة، كأنه سمع صدى أفكاره بصوت شخص آخر. تردد قبل أن يسأل بصوت خافت:


— "وماذا حدث بعد ذلك؟"


ابتسم الرجل، عاقدًا يديه خلف ظهره، وقال:


— "انتظرت. لم أفعل شيئًا سوى أنني انتظرت. كان البحر يهمس لي بأسراره، والموج يلامس قدمي، ومع كل موجة جديدة، شعرت أن الحياة ما زالت تمنحني فرصة أخرى."


توقف للحظة ثم تابع:


— "وفي يوم من الأيام، أدركت أنني لا أريد الرحيل بعد. وجدت أن هناك دائمًا سببًا للبقاء، حتى لو لم أره في البداية."


ساد صمت بينهما. كانت الأمواج مستمرة في مداعبة الرمال، والرياح تهبّ برفق، كأنها تحمل معه الكلمات الثقيلة التي ملأت قلب سامر.


أخذ نفسًا عميقًا، نظر إلى الأفق مرة أخرى، ثم أخرج الورقة من جيبه. نظر إليها لثوانٍ قبل أن يمزقها ببطء، فتطايرت قطعها الصغيرة مع الريح، تندمج مع رمال الشاطئ كأنها لم تكن.


للمرة الأولى منذ فترة طويلة، شعر أن صدره أصبح أخف.


🟡 وراء الستائر المغلقة (قصة قصيرة)

 وراء الستائر المغلقة (قصة قصيرة)

.


.
كانت رائحة البُنّ المطحون حديثاً تملأ مقهى "الفراشة" الصّغير
، في زقاق ضيّق بقلب المدينة. آدم، الشّاب العشريني الذي يعمل نادلاً بدوام جزئي، كان يمسح الطّاولات بخشوع، بينما تتابعه عيناها من خلف نظّارتها. ليلى، المرأة الخمسينيّة التي اعتادت الجلوس عند الزّاوية البعيدة كلّ يوم ثلاثاء، كانت ترفع فنجان القهوة إلى شفتيها بيد مرتعشة، وكأنّها تحاول إخفاء شيء ما وراء ابتسامتها الهادئة.

في أحد الأيّام، بينما كان المطر يقرع زجاج النّوافذ بقوّة، تعثّرت ليلى وهي تحمل حقيبتها المليئة بكتب الأدب الفرنسي. التقط آدم الأوراق المتناثرة بسرعة، وعندما رفع عينيه، واجه نظرةً غريبةً - مزيجاً من الحنين والخوف - في عينيها.

"شكراً... آدم، أليس كذلك؟" قالت بصوتها النّاعم.

لم يكن يعلم أنّها تعرف إسمه.

 

---

 

بدأت ليلى تزور المقهى يوميًّا. في كل مرة، تترك وراءها قصاصة ورق عليها سطر من قصيدة لم تُنشر بعد. آدم، الطّالب في كلّيّة الآداب، وجد نفسه ينتظر تلك اللّحظة بقلق. وذات مساء، وجد قصيدة كاملة داخل ظرف وردي:

 

"أيّتها السّنوات العجاف،

عّلمتني أن الحبّ ليس عمراً...

بل جرحاً يضيء في الظّلام."

 

قرّر أن يردّ بإهدائها روايته المفضلة، "الحبّ في زمن الكوليرا"، مع إشارة إلى الصّفحة 132، حيث جملة رسم تحتها خطّا أحمرا: "كانت تعرف أنّ الحبّ لا يموت، حتّى عندما يختبئ تحت رماد الزّمن."

 

---

 

في شقة مفروشة في ضواحي المدينة، حيث إلتقيا لأول مرة خارج المقهى، اكتشف آدم أنّ ليلى أمٌّ لثلاث بنات: ياسمين، سلمى ودلال، أكبرهنّ عمرها ثمانية عشر عامًا. بينما كانت تحكي عن زواجها المبكّر من رجل الأعمال الذي يكبرها بعشرين عاماً، إنزلق إصبعها على ندبة خفيّة عند معصمها.

"الحياة تُعلِّمنا أن نعيش بأشلائنا"، همست قبل أن تنهض فجأةً لتعدّ الشّاي، تاركةً خلفها عطر "شانيل رقم 5" يلتف حوله كذكرى لا تُمحى.

 

---

 

في حفلة زفاف ابنة خال ليلى، إرتدت فستانًا أسودَ اللون لامعًا، بينما راقصها آدم تحت الأضواء الملوّنة.

"أنت كالرّيح... تأتي وتذهب دون أن تطلب الإذن"، قالت له بينما يدوران في دائرة ضيّقة.

لكن فجأة، توقّفت الموسيقى. على الشاشة الكبيرة، ظهر مقطع فيديو: ياسمين، الابنة الكبرى، تصوِّر سراً لقاءهما في الشّارع من وراء ستارة السّيّارة. اخترق الصّمت القاعة، وانفجرت ليلى في البكاء: "أنا لا أخاف من المجتمع... بل من عيون بناتي".

 

---

 

بعد أسبوع، وجد آدم ظرفاً أبيض عند باب شقته. داخله خاتم زواجها الذّهبي، وصورة قديمة لبناتها الثّلاث يضحكن في حديقة المنزل. على الظّهر كُتب:

"عندما تكون الأمّ نجماً، فالبناتُ هنَّ الكون الذي لا يُخسَفُ ضوؤه.

اغفر لي... لقد اخترتُ أن أحرق أحلامنا، لكي تُضيء شموع عيد ميلاد دلال."

 

---

 

مرت السنوات. كان آدم، الذي صار كاتباً معروفاً، يزور المقهى القديم بين الحين والآخر. في زاوية ليلى البعيدة، تجلس الآن سلمى - إبنتها الوسطى - تقرأ روايته الأخيرة: "وراء الستائر المغلقة". عندما ترفع عينيها، تلتقي نظراتهما للحظة... كأنما التّاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرّة، بكبرياء إمرأة تعرف أنّ بعض الحكايات تُكتَبُ لتُحفظ في أدراج مغلقة، لا لتُروى.

 

.




🟡 وراء الستائر المغلقة (قصة قصيرة)

 وراء الستائر المغلقة (قصة قصيرة)

.


.
كانت رائحة البُنّ المطحون حديثاً تملأ مقهى "الفراشة" الصّغير
، في زقاق ضيّق بقلب المدينة. آدم، الشّاب العشريني الذي يعمل نادلاً بدوام جزئي، كان يمسح الطّاولات بخشوع، بينما تتابعه عيناها من خلف نظّارتها. ليلى، المرأة الخمسينيّة التي اعتادت الجلوس عند الزّاوية البعيدة كلّ يوم ثلاثاء، كانت ترفع فنجان القهوة إلى شفتيها بيد مرتعشة، وكأنّها تحاول إخفاء شيء ما وراء ابتسامتها الهادئة.

في أحد الأيّام، بينما كان المطر يقرع زجاج النّوافذ بقوّة، تعثّرت ليلى وهي تحمل حقيبتها المليئة بكتب الأدب الفرنسي. التقط آدم الأوراق المتناثرة بسرعة، وعندما رفع عينيه، واجه نظرةً غريبةً - مزيجاً من الحنين والخوف - في عينيها.

"شكراً... آدم، أليس كذلك؟" قالت بصوتها النّاعم.

لم يكن يعلم أنّها تعرف إسمه.

 

---

 

بدأت ليلى تزور المقهى يوميًّا. في كل مرة، تترك وراءها قصاصة ورق عليها سطر من قصيدة لم تُنشر بعد. آدم، الطّالب في كلّيّة الآداب، وجد نفسه ينتظر تلك اللّحظة بقلق. وذات مساء، وجد قصيدة كاملة داخل ظرف وردي:

 

"أيّتها السّنوات العجاف،

عّلمتني أن الحبّ ليس عمراً...

بل جرحاً يضيء في الظّلام."

 

قرّر أن يردّ بإهدائها روايته المفضلة، "الحبّ في زمن الكوليرا"، مع إشارة إلى الصّفحة 132، حيث جملة رسم تحتها خطّا أحمرا: "كانت تعرف أنّ الحبّ لا يموت، حتّى عندما يختبئ تحت رماد الزّمن."

 

---

 

في شقة مفروشة في ضواحي المدينة، حيث إلتقيا لأول مرة خارج المقهى، اكتشف آدم أنّ ليلى أمٌّ لثلاث بنات: ياسمين، سلمى ودلال، أكبرهنّ عمرها ثمانية عشر عامًا. بينما كانت تحكي عن زواجها المبكّر من رجل الأعمال الذي يكبرها بعشرين عاماً، إنزلق إصبعها على ندبة خفيّة عند معصمها.

"الحياة تُعلِّمنا أن نعيش بأشلائنا"، همست قبل أن تنهض فجأةً لتعدّ الشّاي، تاركةً خلفها عطر "شانيل رقم 5" يلتف حوله كذكرى لا تُمحى.

 

---

 

في حفلة زفاف ابنة خال ليلى، إرتدت فستانًا أسودَ اللون لامعًا، بينما راقصها آدم تحت الأضواء الملوّنة.

"أنت كالرّيح... تأتي وتذهب دون أن تطلب الإذن"، قالت له بينما يدوران في دائرة ضيّقة.

لكن فجأة، توقّفت الموسيقى. على الشاشة الكبيرة، ظهر مقطع فيديو: ياسمين، الابنة الكبرى، تصوِّر سراً لقاءهما في الشّارع من وراء ستارة السّيّارة. اخترق الصّمت القاعة، وانفجرت ليلى في البكاء: "أنا لا أخاف من المجتمع... بل من عيون بناتي".

 

---

 

بعد أسبوع، وجد آدم ظرفاً أبيض عند باب شقته. داخله خاتم زواجها الذّهبي، وصورة قديمة لبناتها الثّلاث يضحكن في حديقة المنزل. على الظّهر كُتب:

"عندما تكون الأمّ نجماً، فالبناتُ هنَّ الكون الذي لا يُخسَفُ ضوؤه.

اغفر لي... لقد اخترتُ أن أحرق أحلامنا، لكي تُضيء شموع عيد ميلاد دلال."

 

---

 

مرت السنوات. كان آدم، الذي صار كاتباً معروفاً، يزور المقهى القديم بين الحين والآخر. في زاوية ليلى البعيدة، تجلس الآن سلمى - إبنتها الوسطى - تقرأ روايته الأخيرة: "وراء الستائر المغلقة". عندما ترفع عينيها، تلتقي نظراتهما للحظة... كأنما التّاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرّة، بكبرياء إمرأة تعرف أنّ بعض الحكايات تُكتَبُ لتُحفظ في أدراج مغلقة، لا لتُروى.

 

.




🟡 وهجٌ يتلاشى (قصة قصيرة)

وهجٌ يتلاشى (قصة قصيرة)

.

 


.

كان لحسن وسارّة قصّة حبّ يحسدهما عليها الجميع. منذ لقائهما الأوّل، شعر كل منهما أنّه وجد نصفه الآخر. كانت ضحكاتها كالموسيقى في أذنيه، وكان صبره واهتمامه يُشعرانها بالأمان. كانا يسرقان اللّحظات من الزّمن ليكونا معًا، يتحدّثان حتى الفجر عن الأحلام والمستقبل، يحلمان بمنزل دافئ وأطفال يملؤون أرجاءه بالحياة.

لكنّ الحب، مهما كان عظيمًا، يحتاج إلى أكثر من المشاعر ليبقى متّقدًا.

مع مرور السنوات، أشياء كثيرة بدت وكأنّها تغيّرت. لم يكن الأمر واضحًا في البداية، مجرد لمحات صغيرة تمرّ دون أن يلاحظها أحد.

أصبح حسن يعود إلى المنزل متعبًا، يجلس أمام التّلفاز دون أن ينتبه إلى سارّة التي كانت تنتظره طوال اليوم لتخبره عن تفاصيلها الصّغيرة. لم يعد يسألها كيف كان يومها، ولم يعد يلاحظ تسريحة شعرها الجديدة أو الفستان الذي اختارته بعناية.

أما سارّة، فقد بدأت تشعر بأنّها مجرد جزء من الرّوتين اليومي، كقطعة أثاث مألوفة لا تلفت الإنتباه. لم تعد تخبره بكلّ شيء كما كانت تفعل، لأن كلماته أصبحت مقتضبة، واهتمامه أصبح مجاملة أكثر منه شغفًا.

في البداية، كانت تحاول لفت انتباهه، تسأله عن يومه، تخبره عن مشاعرها، لكنه كان يجيب بإجابات قصيرة، وكأنّها عبء آخر على يومه الطويل. ومع الوقت، بدأت هي الأخرى تصمت.

لم يعودا يتشاجران كثيرًا، لكنّه لم يكن سلامًا حقيقيًّا، بل هدنة غير معلنة بين روحين غريبتين تحت سقف واحد.

في المساء، كانا يجلسان على مائدة العشاء، لكن الصّمت كان سيّد اللّحظة. لم يعد هناك شيء يُقال. لم تعد هناك ضحكات عفويّة، أو نظرات طويلة، أو حتى تلك الخلافات البسيطة التي كانت تنتهي باعتذار واحتضان.

في أحد الأيام، وبينما كانت سارّة ترتّب خزانتها، وجدت صندوقًا قديمًا يحوي رسائل حسن القديمة. قرأت إحداها، فشعرت بوخزة في قلبها:

"لا أستطيع تخيّل يومي دونك. أنتِ نبضي، ودفئي في الأيّام الباردة."

ضحكت بسخرية حزينة وهي تفكر: هل كنا فعلًا هكذا؟ متى أصبحنا ما نحن عليه الآن؟

أمّا حسن، فقد كان يلاحظ المسافة بينهما، لكنّه لم يكن يعرف كيف يعيد الأمور إلى سابق عهدها. كان يشعر أنه فقد مفتاح قلبها دون أن يدرك متى أو كيف.

في إحدى اللّيالي، وبينما كانا يشاهدان التلفاز، التفتت إليه سارّة وسألته فجأة:

"هل تحبّني، حسن؟"

نظر إليها مطولًا، ثمّ ابتسم ابتسامة باهتة وقال: "بالطّبع أحبّك."

لكنّها لم تصدّقه، ليس لأنّه يكذب، بل لأنها شعرت أنّ الحبّ لم يعد كما كان. لم يكن هناك شغف، لم يكن هناك اشتياق. كان حبًّا هادئًا، أشبه بجمرة تحت الرّماد، لم تنطفئ تمامًا لكنّها لم تعد تشعّ بالدّفء.

لم يكن هناك خيانة، لم يكن هناك خذلان واضح، فقط برود زحف إلى العلاقة ببطء، حتى أصبح كل شيء روتينيًّا ومُملًّا.

في النهاية، لم يكن هناك وداع درامي، ولا كلمات أخيرة تُقال. فقط مساران انفصلا بصمت، تمامًا كما تلاشى وهجهما ببطء.

 

 

.

 


🟡 وهجٌ يتلاشى (قصة قصيرة)

وهجٌ يتلاشى (قصة قصيرة)

.

 


.

كان لحسن وسارّة قصّة حبّ يحسدهما عليها الجميع. منذ لقائهما الأوّل، شعر كل منهما أنّه وجد نصفه الآخر. كانت ضحكاتها كالموسيقى في أذنيه، وكان صبره واهتمامه يُشعرانها بالأمان. كانا يسرقان اللّحظات من الزّمن ليكونا معًا، يتحدّثان حتى الفجر عن الأحلام والمستقبل، يحلمان بمنزل دافئ وأطفال يملؤون أرجاءه بالحياة.

لكنّ الحب، مهما كان عظيمًا، يحتاج إلى أكثر من المشاعر ليبقى متّقدًا.

مع مرور السنوات، أشياء كثيرة بدت وكأنّها تغيّرت. لم يكن الأمر واضحًا في البداية، مجرد لمحات صغيرة تمرّ دون أن يلاحظها أحد.

أصبح حسن يعود إلى المنزل متعبًا، يجلس أمام التّلفاز دون أن ينتبه إلى سارّة التي كانت تنتظره طوال اليوم لتخبره عن تفاصيلها الصّغيرة. لم يعد يسألها كيف كان يومها، ولم يعد يلاحظ تسريحة شعرها الجديدة أو الفستان الذي اختارته بعناية.

أما سارّة، فقد بدأت تشعر بأنّها مجرد جزء من الرّوتين اليومي، كقطعة أثاث مألوفة لا تلفت الإنتباه. لم تعد تخبره بكلّ شيء كما كانت تفعل، لأن كلماته أصبحت مقتضبة، واهتمامه أصبح مجاملة أكثر منه شغفًا.

في البداية، كانت تحاول لفت انتباهه، تسأله عن يومه، تخبره عن مشاعرها، لكنه كان يجيب بإجابات قصيرة، وكأنّها عبء آخر على يومه الطويل. ومع الوقت، بدأت هي الأخرى تصمت.

لم يعودا يتشاجران كثيرًا، لكنّه لم يكن سلامًا حقيقيًّا، بل هدنة غير معلنة بين روحين غريبتين تحت سقف واحد.

في المساء، كانا يجلسان على مائدة العشاء، لكن الصّمت كان سيّد اللّحظة. لم يعد هناك شيء يُقال. لم تعد هناك ضحكات عفويّة، أو نظرات طويلة، أو حتى تلك الخلافات البسيطة التي كانت تنتهي باعتذار واحتضان.

في أحد الأيام، وبينما كانت سارّة ترتّب خزانتها، وجدت صندوقًا قديمًا يحوي رسائل حسن القديمة. قرأت إحداها، فشعرت بوخزة في قلبها:

"لا أستطيع تخيّل يومي دونك. أنتِ نبضي، ودفئي في الأيّام الباردة."

ضحكت بسخرية حزينة وهي تفكر: هل كنا فعلًا هكذا؟ متى أصبحنا ما نحن عليه الآن؟

أمّا حسن، فقد كان يلاحظ المسافة بينهما، لكنّه لم يكن يعرف كيف يعيد الأمور إلى سابق عهدها. كان يشعر أنه فقد مفتاح قلبها دون أن يدرك متى أو كيف.

في إحدى اللّيالي، وبينما كانا يشاهدان التلفاز، التفتت إليه سارّة وسألته فجأة:

"هل تحبّني، حسن؟"

نظر إليها مطولًا، ثمّ ابتسم ابتسامة باهتة وقال: "بالطّبع أحبّك."

لكنّها لم تصدّقه، ليس لأنّه يكذب، بل لأنها شعرت أنّ الحبّ لم يعد كما كان. لم يكن هناك شغف، لم يكن هناك اشتياق. كان حبًّا هادئًا، أشبه بجمرة تحت الرّماد، لم تنطفئ تمامًا لكنّها لم تعد تشعّ بالدّفء.

لم يكن هناك خيانة، لم يكن هناك خذلان واضح، فقط برود زحف إلى العلاقة ببطء، حتى أصبح كل شيء روتينيًّا ومُملًّا.

في النهاية، لم يكن هناك وداع درامي، ولا كلمات أخيرة تُقال. فقط مساران انفصلا بصمت، تمامًا كما تلاشى وهجهما ببطء.

 

 

.